الرسالة التي وجّهها المطران انطوان-شربل طربيه الى أبناء الكنيسة المارونية في أوستراليا بمناسبة عيد الميلاد 2015

في الميلاد تجسدت رحمة الله
1. يَحُلُّ ميلادُ الربِ يسوعَ هذه السنةَ في قلبِ "السنةِ اليوبيليةِ للرحمةِ" التي أعلَنَها قداسةُ البابا فرنسيس، والتي ابتدأت مع عيدِ الحبلِ بلا دَنَس في 8 كانون الاول من هذه السنة وتنتهي في 20 تشرين الثاني من السنةِ المقبلةِ، في عيدِ يسوعَ الملك.

2. ورحمةُ الله التي ظَهَرَت أولاً في الخَلقِ عندما خَلَقَ اللهُ الانسانَ "ذكراً وانثى خَلَقَهُما...على صورَتِهِ ومِثالِه..." رافَقَتِ الانسانَ رُغمَ ضَلالِه وخطيئتهِ، في مختلفِ محطاتِ تاريخِ شعبِ الله في العهدِ القديم، وتجلّت بطريقةٍ فريدةٍ في العهدِ الجديدِ حين قال لنا اللهُ بالابنِ المتجسّدِ كلَّ شيء. لكنَّ هذه الرحمةَ التي ظهرتْ في التاريخِ واحةَ توبةٍ ومصالحةٍ انما هي تتخطّى كلَّ تاريخٍ وزمنٍ، وتدومُ الى الأبد، الى ما لا نِهايةْ بحسَبِ قَولِ صاحبِ المزامير: "إعترفوا للربِ فإنه صالحٌ وإنّ إلى الأبدِ رحمتَه" (مز 136).

3. والاحتفالُ بعيدِ الميلادِ هو احتفالٌ بميلادِ الرحمةِ في عالمَنِا كتعبيرٍ كاملٍ عن محبةِ الله للانسان. وأجملُ ما نتأملُ به في الميلاد هو تجسدُ رحمةِ الله ليس بهدفِ أن تكشِفَ لنا عن عظمةِ محبتِه ورحمته تُجاه الخاطئين وحسب، انما ايضاً لتُظهِرَ لنا أنّ الرحمةَ التي تملأُ قلبَ اللهِ انتقلت بواسطةِ التجسدِ الالهي لِتَلمُسَ قلبَ الانسانِ وتجعلَهُ رحوماً تُجاه اخيه الانسان. 

4. إن عالمَ اليوم يعاني ما يُعانيه من العُنفِ والكراهيةِ بين الشعوب ويترافقُ ذلك مع ازديادِ القساوةِ والعدائيةِ التي قد تصلُ أحياناً الى التعذيبِ والقتلِ بدافعٍ دينيٍ او ايديولوجيّْ. فالحاجةُ أصبحتْ مُلِحّةً لعيشِ اختبارِ رحمةِ الله الذي يقودُ الى ممارسةِ الرحمةِ والرأفةِ في تعامُلِ الناسِ معُ بعضِهم البعضْ، فَمِنَ اللهِ الرحيمِ الى الانسانِ الرحيمِ مسيرةُ تأمّلٍ بكلامِ الربِ يسوعَ القائلِ: "كونوا رُحَماءَ كما أنّ اباكُمُ السماويُّ رحيمٌ" (لو 6 /36).

5. واحتفالُنا بتجسدِ الرحمةِ في الميلادِ يجبُ أن لا يقتصرَ على الكلامِ والنظرياتِ فنَبقى في سِجنِ الحرفِ والقانون، انما علينا في سنةِ الرحمةِ أن نبادرَ بشجاعةٍ وعزمٍ إلى الخروجِ منْ ذواتِنا لنعيشَ المغفرةَ والمصالحةَ تجاوباً مع دعوةِ الربِّ يسوع لنا الى التوبةِ، هو الذي التقى الخطأةَ والاشرارَ وغيَّرَ حياتَهم وقلوبَهُم ليس بقوةِ القانونِ او بمقياسِ العدلِ، انما بالرحمةِ والمحبةِ الغافرةِ، مُعلناً: "طوبى للرُحماءِ فإنّهمْ يُرحمون"(متى 5/7).

6. ومِنَ الصفاتِ الأساسيةِ لرحمةِ اللهِ والتي تُظهِرُ قُدرَتَهُ، أنها رحمةٌ بلا حدودْ، وقد عَبَّرَ الربُ يسوعُ عن ذلكَ في مَثَلِ السامريِّ الصالحِ الذي تعامَلَ بالرحمةِ مع اليهوديِّ الذي وَقَعَ في أيدي اللصوصِ، فضربوه وتَرَكوه على قارعةِ الطريقِ بين حيٍّ ومَيتْ. فالسامريُّ الذي تخطّى بذلكَ كلَّ عداوةٍ قديمة، متجاوزاً الحواجزَ الدينيةَ والِعرْقية، يَدُلُّنا أنَّ رحمةَ اللهِ لا تعرِفُ الحدودَ، كذلك رحمةُ الانسانِ لأخيهِ يجبُ أن تتخطّى العوائقَ والحدودَ وتتحوّلَ الى رحمةٍ عمليّةٍ وليسَ الى عاطفةٍ عابرة.

7. ففي هذِهِ المناسبةِ أتوجهُ إليكم يا بناتِ وأبناءِ أبرشيتِنا الأحباء، لأدعوَكُمْ كي نعملَ معاً ونمُدَّ يدَ المساعدةِ الى المحتاجينَ والمستضعفينَ، وخصوصاً الى اللاجئينَ في لبنانَ ومنطقةِ الشرقِ الاوسطِ، دونَ أن نَنسَى أولئكَ الفقراءِ الذين قَذَفَتْهُم المجتمعاتِ إلى ضواحي المدنِ الكبيرةِ حيثُ يعيشونَ في الفَقر المُدْقِعِ، ويُعانون من الحِرمانِ والظُلمِ.

8. إن كلَ عملٍ من أعمالِ الرحمةِ التي نقومُ بها تُجاه أخوتِنا هؤلاء، انما نقومُ بهِ تُجاهَ شخصِ يسوعَ نفسِهِ المحُتَجِبِ وراءَ الجائعِ والعَطشان، المريضِ والغريبِ، المُهمَّشِ والسجينِ، بِعِلْم أو بغَيرِ عِلْمٍ منّا.

9. أيها الاحباء،
إن سنةِ الرحمةِ هي صوتٌ صارخٌ الى القادةِ والمسؤولينَ السياسيين في بريةِ عالمِ اليوم، لكي يعمَلوا بصدقٍ وجديةٍ من اجلِ السلامِ وايقافِ الحروبِ في أرجاءِ العالمَ كافةً، وخصوصاً في سوريا والعراق. إنها بالتالي نداءٌ إلى مَن اتّبعوا لغةَ القتلِ والموتِ باسمِ الدينِ أحياناً لتنفيذِ مأَرِبِهِم، ندعوهُم لكي يعودوا الى ضميرِهمْ وانسانيتِهمْ فيعرِفوا أن الانسانَ قيمةٌ، والحياةَ عطيةٌ من اللهِ وعليهِمِ احترامُها والتوقفُ عن سياساتِهم القاتلةِ التي يذهبُ ضحيتَها كلَّ يومٍ الكثيرُ منَ النفوسِ البريئة.

10. إن بابَ الرحمةِ هو يسوعُ المسيح نفسُهُ، وقَدْ فَتَحَ لنا هذا البابَ على مصراعَيه من خلالِ الكنيسةِ وأسرارِها السبعةِ خصوصاً سِرَيّْ الافخارستيا والتوبة. وقد خَصَصّْنا في أبرشيتِنا في هذه السنةِ اليوبيليةِ المباركة، ثلاث كنائسَ قُمنا بفتحِ بابِ الرحمةِ فيها وهي: كاتدرائيةُ مار مارون في ردفرن، كاتدرائيةُ سيدةِ لبنانَ في هاريس بارك، وكنيسةُ سيدةِ لبنانُ في ملبورن. فعبورُ المؤمنين في بابِ الرحمةِ فيه الكثيرُ من الرمزيةِ الأَسراريةِ والتي من خلالِها نَعبُر مع الربِ يسوعَ من الظُلمةِ الى النورِ ومنَ العبوديةِ الى الحريةِ ومنَ الخطيئةِ الى النعمةِ، فيكونَ عيدُ الميلادِ هذه السنةَ، مناسبةٌ لتجديدِ ميلادِ الرحمةِ في قلوبِنا ومجتمعاتِنا وعالمِنا. 

ولد المسيح! هللويا!

سيدني في ٢٤ كانون الأول ٢٠١٥ 
 + المطران أنطوان-شربل طربيه 
راعي أبرشية اوستراليا المارونية 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق